فصل: التعليم الثاني: الأسباب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القانون (نسخة منقحة)



.التعليم الثاني: الأسباب:

وهو جملتان:

.الجملة الأولى: الأشياء التي تحدث عن سبب من الأسباب العامة:

وهي تسعة عشر فصلاً:

.الفصل الأول: قول كلي في الأسباب:

أسباب أحوال البدن وقد قدمناها أعني الصحة والمرض والحال المتوسطة بينهما ثلاثة: السابقة والبادية والواصلة وتشترك السابقة والواصلة في أنهما أمور بدنية أعني خلطية أو مزاجية أو تركيبية.
والأسباب البادية هي من أمور خارجة عن جوهر البدن إما من جهة أجسام خارجة مثل ما يحدث عن الضرب وسخونة الجو والطعام الحار أو البارد الواردين على البدن وإما من جهة النفس فإن النفس شيء آخر غير البدن مثل ما يحدث عن الغضب والأسباب السابقة والبادية تشترك في أنه قد يكون بينهما وبين هذه الأحوال واسطة ما.
والأسباب البادية والأسباب الواصلة تشترك في أنه قد لا يكون بينهما وبين الحالة المذكورة واسطة لكن الأسباب السابقة تنفصل عن الأسباب الواصلة بأن الأسباب السابقة لا يليها الحالة بل بينهما أسباب أخرى أقرب إلى الحالة من السابقة.
والأسباب السابقة تنفصل من البادية بأنها بدنية وأيضاً فإن الأسباب السابقة يكون بينها وبين الحالة واسطة لا محالة.
والأسباب البادية ليس يجب فيها ذلك.
والأسباب الواصلة لا يكون بينها وبين الحالة واسطة البتة.
والأسباب البادية ليس يجب فيها ذلك بل الأمر أن فيها ممكنان فالأسباب السابقة هي أسباب بدنية أعني خلطية أو مزاجية أو تركيبية هي الموجبة للحالة إيجاباً غير أولي أعني توجبها بواسطة.
والأسباب الواصلة أسباب بدنية توجب أحوالاً بدنية إيجاباً أولياً أي بغير واسطة والأسباب البادية أسباب غير بدنية توجب أحوالاً بدنية إيجاباً أولياً وغير أولي مثال الأسباب السابقة الإمتلاء للحمى وإمتلاء أوعية العين لنزول الماء فيها.
ومثال الأسباب الواصلة العفونة للحمى والرطوبة السائلة إلى النفث للسدة والسدة للحمى ومثال الأسباب البادية حرارة الشمس وشدة الحرارة أو الغم أو السهر أو تناول شيء مسخن كالثوم.
كل ذلك للحمى أو الضربة للانتشار ونزول الماء في العين.
وكل سبب إما سبب بالذات كالفلفل يسخن والأفيون يبرد وإما بالعرض كالماء البارد إذا سخن بالتكثيف وتحقن الحرارة والماء الحار إذا برد بالتحليل والسقمونيا إذا برد باستفراغ الخلط المسخًن وليس كل سبب يصل إلى البدن يفعل فيه بل قد يحتاج مع ذلك إلى أمور ثلاثة: إلى قوة من قوته الفاعلة وقوة من قوة البدن الإستعدادية وتمكن من ملاقاة أحدهما الآخر زماناً في مثله يصدر ذلك الفعل عنه.
وقد تختلف أحوال الأسباب عند موجباتها فربما كان السبب واحداً واقتضى في أبدان شتى أمراضاً شتى أو في أوقات شتى أمراضاً شتى وقد يختلف فعله في الضعيف والقوي وفي شديد الحسّ وضعيف الحس.
ومن الأسباب ما هو مخلِف ومنها ما هو غير مخلِف والمخلِف هو الذي إذا فارق يبقى تأثيره.
وغير المخلِف هو الذي يكون البرء مع مفارقته.
ونقول: إن الأسباب المغيرة لأحوال الأبدان والحافظة لها إما ضرورية لا يتأتى للإنسان التفصي عنها في حياته وإما غير ضرورية.
والضرورية ستة أجناس: جنس الهواء المحيط وجنس ما يؤكل ويشرب وجنس الحركة والسكون البدنيين وجنس الحركات النفسانية وجنس النوم واليقظة وجنس الاستفراغ والاحتقان فلنشرع أولاً في جنس الهواء.

.الفصل الثاني: تأثير الهواء المحيط بالأبدان:

الهواء عنصر لأبداننا وأرواحنا ومع أنه عنصر لأبداننا وأرواحنا فهو مددة يصل إلى أرواحنا ويكون علة إصلاحها لا كالعنصر فقط لكن كالفاعل أعني المعدل وقد بيّنا ما نعني بالروح فيما سلف ولسنا نعني به ما تسميه الحكماء النفس.
وهذا التعديل الذي يصدر عن الهواء في أرواحنا يتعلق بفعلين هما الترويح والتنقية.
والترويح هو تعديل مزاج الروح الحار إذا أفرط بالاحتقان في الأكثر وتغيّره- وأعني بالتعديل- التعديل الإضافي الذي علمته وهذا التعديل يفيده الإستنشاق من الرئة.
ومن منافس النبض المتصلة بالشرايين والهواء الذي يحيط بأبداننا بارد جداً بالقياس إلى مزاج الروح الغريزي فضلاً عن المزاج الحادث بالاحتقان فإذا وصل إليه صدمه الهواء وخالطه ومنعه عن الإستحالة إلى النارية والاحتقانية المؤدية إلى سوء مزاج يزول به عن الاستعداد لقبول التأثر النفساني فيه الذي هو سبب الحياة وإلى تحلل نفس جوهره البخاري الرطب.
وأما التنقية فهي باستصحابه عند رد النفس ما تسلمه إليه القوة المميّزة من البخار الدخاني الذي نسبته إلى الروح نسبة الخلط الفضلي إلى البدن.
والتعديل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق والتنقية بصدوره عنه عند رد النفس وذلك لأن الهواء المستنشق إنما يحتاج إليه في تعديله أول وروده أن يكون بارداً بالفعل فإذا إستحال إلى كيفية الروح بالتسخين لطول مكثه بطلت فائدته فاستغنى عنه.
واحتيج إلى هواء جديد يدخل ويقوم مقامه فاحتيج ضرورة إلى إخراجه لإخلاء المكان لمعاقبة ولتندفع معه فضول جوهر الروح والهواء ما دام معتدلاَ وصافياً ليس يخالطه جوهر غريب مناف لمزاج الروح فهو فاعل للصحة وحافظ لها فإذا تغير فعل ضد فعله.
والهواء يعرض له تغيرات طبيعية وتغيرات غير طبيعية وتغيّرات خارجة عن المجرى الطبيعي مضادة له.
والتغيرات الطبيعية هي التغيرات الفضلية فإنه يستحيل عند كل فصل إلى مزاج آخر.

.الفصل الثالث: طباع الفصول:

اعلم أن هذه الفصول عند الأطباء غيرها عند المنجمين فإن الفصول الأربعة عند المنجّمين هي أزمنة انتقالات الشمس في ربع ربع من فلك البروج مبتدئة من النقطة الربيعية وأما عند الأطباء فإن الربيع هو الزمان الذي لا يحوج في البلاد المعتدلة إلى إدفاء يعتد به من البرد أو ترويح يعتد به من الحر ويكون فيه ابتداء نشوء الأشجار ويكون زمانه زمان ما بين الاستواء الربيعي أو قبله أو بعده بقليل إلى حصول الشمس في نصف من الثور.
ويكون الخريف هو المقابل له في مثل بلادنا.
ويجوز في بلاد أخرى أن يتقدم الربيع ويتأخر الخريف.
والصيف هو جميع الزمان الحار والشتاء هو جميع الزمان البارد فيكون زمان الربيع والخريف كل واحد منهما عند الأطباء أقصر من كل واحد من الصيف والشتاء.
وزمان الشتاء مقابل للصيف أو أقل أو أكثر منه بحسب البلاد.
فيشبه أن يكون الربيع زمان الأزهار ابتداء الأثمار والخريف زمان تغير لون الورق وابتداء سقوطه وما سواهما شتاء وصيف.
فنقول إن مزاج الربيع هو المزاج المعتدل وليس على ما يظن أنه حار رطب.
وتحقيق ذلك بكنهه هو إلى الجزء الطبيعي من الحكمة بل ليسلم أن الربيع معتدل والصيف حار لقرب الشمس من سمت الرؤوس وقوة الشعاع الفائض عنها الذي يتوهم انعكاسه في الصيف إما على زوايا حادة جداً وإما ناكصاً على أعقابه في الخطوط التي نفذ فيها فيكثف عندها الشعاع.
وسبب ذلك في الحقيقة هو أن مسقط شعاع الشمس منه ما هو بمنزلة مخروط السهم من الأسطوانة والمخروط كأنه ينفذ من مركز جرم الشمس إلى ما هو محاذيه.
ومنه ما هو بمنزلة البسيط والمحيط أو المقارب للمحيط وأن قوته عند سهمه أقوى إذ التأثير يتوجه إليه من الأطراف كلها وأما ما يلي الأطراف فهو أضعف ونحن في الصيف واقعون في السهم أو بقرب منه ويدوم ذلك علينا سكان العروض الشمالية.
وفي الشتاء بحيث يقرب من المحيط ولذلك ما يكون الضوء في الصيف أنور مع أن المسافة من مقامنا إلى مقام الشمس في قرب أوجهها أبعد.
أما نسبة هذا القرب والبعد فتبتين في الجزء النجومي من الجزء الرياضي من الحكمة.
وأما تحقيق إشتداد الحر لاشتداد الضوء فهو يتبين في الجزء الطبيعي من الحكمة.
والصيف مع أنه حار فهو أيضاً يابس لتحلل الرطوبات فيه من شدّة الحرارة ولتخلخل جوهر الهواء ومشاكلته للطبيعة النارية ولقلة ما يقع فيه من الأنداء والأمطار.
والشتاء بارد رطب لضد هذه العلل.
وأما الخريف فإن الحر يكون قد انتقص فيه والبرد لا يستحكم بعد وكأنَا قد حصلنا في الوسط من التبعد بين السهم المذكور وبين المحيط.
فإذن هو قريب من الإعتدال في الحر والبرد إلا أنه غير معتدل في الرطوبة واليبوسة وكيف والشمس قد جففت الهواء ولم يحدث بعد من العلل المرطبة ما يقابل تجفيف العلة المجففة وليس الحال في التبريد كالحال في الترطيب لأن الإستحالة إلى البرودة تكون بسهولة والإستحالة إلى الرطوبة لا تكون بتلك السهولة.
وأيضاً ليست الإستحالة إلى الرطوبة بالبرد كالاستحالة إلى الجفاف بالحر لأن الاستحالة إلى الجفاف بالحر تكون بسهولة فإن أدنى الحر يجفف.
وليس أدنى البرد يرطب بل ربما كان أدنى الحرّ أقوى في الترطيب إذا وجد المادة من أدنى البرد فيه لأنّ أدنى الحر يبخر ولا يحلّل.
وليس أدنى البرد يكثف ويحقن ويجمع.
ولهذا ليس حال بقاء الربيع على رطوبة الشتاء كحال بقاء الخريف على يبوسة الصيف فإن رطوبة الربيع تعتدل بالحر في زمان لا تعتدل فيه يبوسة الخريف بالبرد ويشبه أن يكون هذا الترطيب والتجفيف شبيهاً بفعل ملكة وعدم لا بفعل ضدين لأن التجفيف في هذا الموضع ليس هو إلا إفقاد الجوهر الرطب.
والترطيب ليس هو إفقاد الجوهر اليابس بل تحصيل الجوهر الرطب لأنا لسنا نقول في هذا الموضع هواء رطب وهواء يابس ونذهب فيه إلى صورته أو كيفيته الطبيعية بل لا نتعرض لهذا في هذا الموضع أو نتعرض تعرضاً يسيراً وإنما نعني بقولنا هواء رطب أي هواء خالطته أبخرة كثيفة مائية أو هواء استحال بتكثفه إلى مشاكلة البخار المائي ونقول هواء يابس أي هواء قد تفشش عنه ما يخالطه من البخارات المائية أو استحال إلى مشاكلة جوهر النار بالتخلخل أو خالطته أدخنة أرضية تشاكل الأرض في تنشفها.
فالربيع ينتفض عنه فضل الرطوبة الشتوية مع أدنى حر يحدث فيه لمقارنة الشمس السمت.
والخريف ليس بأدنى برد يحدث فيه بترطب جوه.
وإذا شئت أن تعرف هذا فتأمل هل تندى الأشياء اليابسة في الجو البارد كتجفف الأشياء الرطبة في الجو الحار على أن يجعل البارد في برده كالحار في حره تقريباً فإنك إذا تأملت هذا وجدت الأمر فيهما مختلفاً على أن ههنا سبباَ آخر أعظم من هذا وهو أن الرطوبات لا تثبت في الجور البارد والحار جميعاً إلاّ بدوام لحوق المدد.
والجفاف ليس يحتاج إلى مدد البتة وإنما صارت الرطوبة في الأجساد المكشوفة للهواء أو في نفس الهواء لا تثبت إلا بمدد لأن الهواء إنما يقال له إنه شديد البرد بالقياس إلى أبداننا وليس يبلغ برده في البلاد المعمورة قبلنا إلى أن لا يحلل البتة بل هو في الأحوال كلها محلل لما فيه من قوة الشمس والكواكب فمتى انقطع المدد واستمر التحلل أسرع الجفاف.
وفي الربيع يكون ما يتحلل أكثر مما يتبخر والسبب في ذلك أن التبخر يفعله أمران: حرارة ورطوبة لطيفة قليلة في ظاهر الجو وحر كامن في الأرض قوي يتأذى منه شيء لطيف إلى ما يقرب من ظاهر الأرض.
وفي الشتاء يكون باطن الأرض حازَا شديد الحرارة كما قد تبين في العلوم الطبيعية الأصلية وتكون حرارة الجو قليلة فيجتمع إذن السببان للترطيب وهو التصعيد ثم التغليظ ولا سيما والبرد أيضاً يوجب في جوهر الهواء نفسه تكاثفاً واستحال إلى البخارية.
وأما في الربيع فان الهواء يكون تحليله أقوى من تبخيره والحرارة الباطنة الكامنة تنقص جداً ويظهر منها ما يميل إلى بارز الأرض دفعه شيء هو أقوى من المبخر أو شيء هو لطيف التبخير لشدة استيلائه على المادة فيلطفها: ويصادف تبخيره اللطيف زيادة حر الجو فيتمّ به التحليل.
هذا بحسب الأكثر وبحسب انفراد هذه الأسباب دون أسباب أخرى توجب أشياء غير ما ذكرناه.
ثم لا تكون هناك مادة كثيرة تلحق ما يصعد ويلطف فلهذا يجب أن يكون طباع الربيع إلى الاعتدال في الرطوبة واليبس كما هو معتدل في الحرارة والبرودة على إنا لا نمنع أن تكون أوائل الربيع إلى الرطوبة ما هي إلا أن بعد ذلك عن الإعتدال ليس كبعد مزاج الخريف من اليبوسة عن الاعتدال ثم إن الخريف من لم يحكم عليه بشدة الإعتدال في الحر والبرد لم يبعد عن الصواب فإن ظهائره صيفية لأن الهواء الخريفي شديد اليبس مستعد جداً لقبول التسخين والاستحالة إلى مشاكلة النارية بتهيئة الصيف إياه لذلك ولياليه وغدواته باردة لبعد الشمس في الخريف عن سمت الرؤوس ولشدة قبول اللطيف المتخلخل لتأثير ما يبرد.
وأما الربيع فهو أقرب إلى الاعتدال في الكيفيتين لأن جوه لا يقبل من السبب المشاكل للسبب في الخريف ما يقبله جو الخريف من التسخين والتبريد فلا يبعد ليله كثيراً عن نهاره.
فإن قال قائل: ما بال الخريف يكون ليله أبرد من ليل الربيع وكان يجب أن يكون هواؤه أسخن لأنه ألطف فنجيبه ونقول: إن الهواء الشديد التخلخل يقبل الحرّ والبرد أسرع وكذلك الماء الشديد التخلخل ولهذا إذا سخنت الماء وعرضته للإجماد كان أسرع جموداً من البارد لنفوذ التبريد فيه لتخلخله على أن الأبدان لا تحس من برد الربيع ما تحس من برد الخريف لأن الأبدان في الربيع منتقلة من البرد إلى الحرّ متعودة للبرد وفي الخريف بالضدّ وعلى أن الخريف متوجه إلى الشتاء والربيع مسافر عنه.
واعلم أن اختلاف الفصول قد يثير في كل إقليم ضرباً من الأمراض ويجب على الطبيب أن يتعرف ذلك في كل إقليم حتى يكون الاحتراز والتقدم بالتدبير مبنياً عليه وقد يشبه اليوم الواحد أيضاً بعض الفصول دون بعض فمن الأيام ما هو شتوي ومنها ما هو صيفي ومنها ما هو خريفي يسخن ويبرد في يوم واحد.